عمر حمداوي*
يعتبر متحف سجلماسة ملتقى
الحضارات بمركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث بالرشيدية، من أبرز متاحف الواحة
التي استطاعت أن تحجز لنفسها مقعدا في قطار مشاريع التعريف بتاريخ المنطقة العريق
وتراثها العميق، ويتجلى ذلك في أروقته التي تحوي مجموعة من التحف واللقى التي تشد
أنظار الزائر وتعود به إلى الزمن الجميل، زمن البساطة في العيش والمعنى في القول
والتعايش والتساكن... وتثير شهية الباحث لشد الرحال إلى عالم الحفر والتنقيب في
مجال ومجتمع الواحات.
ومن أهم الأروقة التي تحظى
بنصيب وافر من وقت زوار المتحف، رواق فن البلدي كواحد من أشكال التراث الغنائي
التي تضرب بجذورها في أعماق تاريخ الرشيدية مسقط رأس هذا الفن، الذي يعتبر كما
يقول الباحث إدريس بن البوعزاوي "وسيلة تعبيرية محلية مكنت سكان هذه المنطقة
من التعبير عن انشغالاتهم ومشاكلهم وأفراحهم وأحزانهم ورؤيتهم البسيطة التي لم تكن
تخلو من حكمة وفلسفة خاصة بهم في هذه الحياة" معتمدين في ذلك على كلمات بليغة
من وحي القاموس المحلي، تنسج في أبيات ذات دلالات عميقة، وتؤدى بألحان بسيطة
كبساطة أصحابها، على إيقاع آلات تدغدغ براعة العزف عليها مشاعر المتلقي الذي سرعان
ما يجد نفسه راقصا بشكل أو بآخر.
هذا ويعرض رواق فن البلدي
الذي يؤرخ كما يقول الدكتور مصطفى تيلوا "لذاكرة ولحقبة تاريخية مهمة خاصة
بهذا الفن العريق والملتصق كثيرا بوجدان ساكنة إقليم الرشيدية" ثروة
"بلدية" تتجلى في:
صور الرواد: وفي مقدمتهم وكما
لا يخفى على العارفين المرحومين مولاي علي بلمصباح (1916-1975) ومحمد باعوت
(1916-1990) "اللذين تركا بصمات واضحة على هذا الفن على مستوى الإبداع
والكلمات والألحان وأيضا على مستوى الآلات"، صور لا تدع للمتأمل فيها مجالا
للشك على أن الحصول على وسام الريادة لا يأتي بحب الظهور وخرق قواعد السلوك في
اللباس والكلمات والحركات... بل يولد من رحم التواضع والمحافظة والالتزام بالقيم
المتعارف عليها داخل المجتمع الرشيدي.
صور حملة المشعل: وعلى رأسهم
الفنان المتعدد المواهب شريف الحمري، ومبدع فن الماية مولود الكاوي، وميح،
بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين "الذين جاهدوا واجتهدوا في الحفاظ على هذا
التراث الموسيقي العريق الخاص بمنطقة الرشيدية" كالفنان مولود المسكاوي،
والمرحوم عبد الرحمان الخاضر، محمد جلولي، والمرحوم محمد رجدالي (ولد قويدر)،
والمرحوم عبد القادر ماماضو، بيش، يوسف بوري، ومصطفى العنان صاحب صرخة "فين
الفن البلدي"...
صور أجواق وجلسات بلدية: تؤرخ
للفرق والمجموعات التي ما تزال الذاكرة المحلية تحتفظ بأسماء أعضاها من مغنيين
وعازفين، وللوئام والالتحام الذي يسري في جسد الفنانين مسرى الدم في العديد من اللحظات
المكتوبة بماء من ذهب على صفحات دفتر ذكريات فن البلدي بالرشيدية.
نبذ وبورترهات: لمجموعة من
الفنانين من توقيع الكاتب موحى صواك الذي يعتبر من الأوائل الذين حاولوا نفث
الغبار عن فن البلدي، ومن هؤلاء الفنانين: علي تتوش، مولاي مبارك، شريف الحمري،
محمد بوخريص، مولود الكاوي، محمد السرغيني، محمد بوعبيد...
أما الحضور النسائي فيتجلى في
صور الفنانة عائشة الزكود، التي تعتبر مثالا حيا يبرهن على أن فن البلدي لم يكن
محصورا على الرجال فقط، بل للنساء نصيبهن أيضا – من هذا الكنز- ليس عبر قناة الرقص
أو التصفيق على إيقاع الآلات فحسب، بل من خلال تكوين مجموعات وفرق نسوية تنشط بشكل
خاص في المناسبات الاجتماعية.
الآلات الإيقاعية: يعرض
الرواق أهم الآلات المستعملة في فن البلدي بما فيها الطار، الطارة، التعريجة،
الدربوكة، العود، السنيترة... سعيا منه في الانتقال بالزائر من عالم الصورة وما
تكتنزه من أسرار إلى عالم الإيقاع، وتقريبه آلاته الأصيلة التي كانت ومازالت تف
بغرض الإمتاع والمؤانسة وإشباع رغبات المتلقي، رغم دخول مجموعة من الآلات العصرية
على الخط.
وقبل أن ينتقل الزائر إلى
باقي أروقة المتحف أو يغادر إلى حال سبيله، بعد رحلة تاريخية في عالم فن البلدي
برجالاته وأعلامه وآلاته الموسيقية، ينحني له الرواق تواضعا ليهمس في أذنه بأنه لا
يعد سوى كونه مساهمة في "تنفيذ وصية الرواد بعد عشرات السنين على رحيلهم،
وتحقيق رغبتهم بإخراجهم من مدافن غابات النسيان الموحشة، ووضعهم علامة كيلومترية بارزة
على جنبات طريق رئيسية يقف عندها كل وطني غيور على تراث بلده ويدعو لهم بالرحمة
والإنصاف ولو بعد حين..."
وتجدر الإشارة أن اهتمام مركز
طارق بن زياد للدراسات والأبحاث بفن البلدي لا يكمن في تخصيص رواق لهذا الفن بمتحف
سجلماسة ملتقى الحضارات، بل من خلال استضافة فنانين في الحفلات التي ينظمها
والمهرجانات التي يشرف عليها لأداء روائعهم والتواصل مع جمهورهم وإثبات حضورهم في
الساحة الفنية المحلية، فضلا عن إتاحة الفرصة لهم للمشاركة في محافل وطنية ودولية
كما هو الحال للفنان شريف الحمري الذي مثل البلدي في بمعهد العالم العربي بباريس
سنة 2004 بمبادرة من المركز الذي لا يذخر جهدا في العناية بجميع أشكال التراث
الغنائي بالمنطقة.
*منبر درعة تافيلالت
No comments:
Post a Comment