حفيظ رحماني
تقيم الشاعرة عزيزة لعميري، في قصيدتها " حنين
الوجع"، حوارا خصبا مع ما يعتمل في الطوية من صخب كامن خلف صورة التبدّي الساكن، يتتبع نظمُها ترحّلات الذات في
علياء تطلعاتها و إشراقها. كأنه (= النظم)، إذ يمهد للروح سبل التجلي و يفتح لها مسالك
الانكشاف، كي تعُبّ من ضوء الشمس و لمعة الحرف. يمنحها – في الآن ذاته - احتمالات
تعويضٍ أو عزاءٍ، عن أرق ينبت و يترعرع، في دوامات إحساسٍ مريعٍ، يصطرع فيه إقدامُ وجدانٍ ناصع شفيفٍ و إحجام ينشأ من سطوة الارتباك في خرق كدرِ مألوف هيمن واستحكم. تتنسم القصيدة روح
"طوق الحمامة" لتبعث موضوعات ابن حزم الغافية من هجعتها الخفيفة. تهدهد
الانكسارات و الجروح كي تستدرجها إلى الإفصاح عن ألمها الطافح و نزفها الصامت، محمولة على إيقاع جرسٍ موسيقي، يتخلق من صداه الميلاد الصعب، و
شهوة الإنصات لرعشة تباشيره، على نحو ما يطالعنا به مستهل السفرة في الحنين و وجعه.
طعنـك
الصدر يا سيف ما أوجعــه من له بعد
ملقاك أن يـرجعــهْ
فاضْبِطِ العزف يا قطر من جُرْحِنا فعلى الرّسْت أحب أن أسمعـهْ
ترتاد
القصيدة، بأفق تعبيري متلألئ و أبعاد جمالية وامضة، أصقاع الطهر البكر. تمتلئ به،
تحاكيه إذ تحكي عن نسماتِ سماءٍ قـرّت في غور النفس منذ العشق الأول.
أعظم
الحب سرا تسامى الورى فيه سبحان من في
الحشا أودعهْ
هـل لـقلبٍ بنـورٍ من الحب قـد مُسَّ، إلا إلى اللـه أن يرفـعــــهْ
تتلمس
مجسات اللغة بخفة صدى النبض، تستشعر أحوال الدواخل المتقلبة، في نعيم الهوى أو في
جحيمه، فتأتي الترددات صافية تكشف عن صبابة تمتطي بدلال صهوات " رقّ، دقّ،
راق، أراق، رقرق، أرّق" تعلن عن هوى في أوج الخفق و الدفق.
رقّ
لـحـظ عينـيـك دقّ الجـوى راق لي
إذ أراق الهوى أدمعهْ
رقرق
الدمع همْسُ الصّبا لحنه أرّق مهجة الليل مـا أروعـهْ
كنسمة
فجرية رائقة، تحلّ هِـبات السماء السخية فـيـتوهج العمق الساكن، تتولد من العمر
نفائس عمرٍ منفلتٍ، يغافل رعاة اليباب و "حراس النوايا"، فتنطفئ آنئذٍ
حرقة الألم المتربص بالهشاشة الإنسانية المترقرقة.
سـلّ
حُـزني، و كالهدْي هذا الهوى حلّ من
سدرة المشتهى موضعــهْ
قد
سقاني كؤوس الـنـدى فرحــــة زفّت
الـعمر من بعد ما أخضعهْ
و
انحنى يخفض لي جناح المدى غيمة
تظلل الـعمر مـا أوسـعــــهْ
تنتصر
الذات الشاعرة لهوى لا يشبه إلا نفسه، لا يخبو إذ تداهمه ريح الغياب و الجفاء، لا يفتر إذ تتسلل إليه مفاعيل الزمن بالمحو و
النسيان، ينبعث دوما من الجذوة الخافتة متجاوزا حدود اشتراطاته الوجودية و أقداره
الصعبة. هوى يكاد يتوحد مع " أناه" و يمتلئ بعشق صورته.
يشتهي
الناس لـوْ..ما أحـبـوا إذا ما
جفاهم حبيب جفا مربعهْ
يشتهون
الرّدى من عذاب الهوى و أنا ما أرى الـعمر إلا معهْ
لا
الوصال سلاني و لا ذا الجفا قد
شقاني و قلبي ربا مهيعهْ
تعرج
خطرات الفؤاد إلى العلياء المشتهى، فيرتد إليها غيم الكلمات و الرؤى رذاذا، يتنزل
آخذا بمجامع الوعي و رقة الحنايا إلى حيث
تتطهر الخلجات مجددة مواثيق الوفاء و عهود
الولاء مع نداءات التوحد بفيض الحب و
الفناء في نبع الإلهام .
و
الشعـراء هم أنبـيـاء الـرؤى في سمــاء
اللـه أرواحـهم مشـرعــــــهْ
مات
فينا شهيــــدا سمـا الـنـور من يلق
في الحب حد الرؤى مصْرعه
No comments:
Post a Comment