كان الليل دائما ذلك الكائن الذي
يستبيح عزلتي دون مقاومة ,يفرض علي سلطانه و قوانينه و لا أملك سوى الإستسلام له و
الإعتكاف معه ..ينتابني إحساس غارق في الغموض أن الزمن ليل متواصل لا ينتهي و ما النهار
إلا ليل غطاه الطلاء الأبيض ! هكذا أطلق العنان لخيالي محاولا فهم لغز الليل أو على
الأقل ترميم معناه العصي على الفهم و الأدراك .
حينما يفرض الليل طقوسه المعتادة و تعجز الأضواء
الخجولة عن اختراق جوفه ,أكتفي بالإنزواء إلى مكتبي الخشبي المتواضع ,أحاول الإختباء
خلف فنجان قهوتي كي لا يرشفني سوادها ! ابدأ في ترتيب أوراقي و كأني أدغدغ ذاكرتي قبل
أن يتبخر ما تبقى منها مع دخان سجائري ,لذلك كان قلمي هو ملاذي الوحيد أبحث من خلاله
عن عوالم أخرى تلغي حالة السقوط و التيه التي تحاصرني ,أستجمع ما تبقى مني لأستثمر
ذاكرتي بكل زخمها و مشاعري لتنصهر كليا مع الكتابة و تكون بذلك الزاد الذي يغذي قلمي
..أسافر معه دون أجنحة ,دون رقابة لأتسامى عن كل ما يجرفني ..و لأجعل وجداني يغتسل
بضوء القمر لأتطهر من جهة ولأجعل الضوء يتسرب إلى مناطق ذاتي المظلمة .
الكتابة في زمني الليلي هي نوع من المصالحة مع الذات
هي نبش هندسي للذاكرة و هي أحيانا أخرى بركانا من الحمم ترفض الإستكانة أو التوقف عن
الغليان و بهذا تستشعر المزيف لتهاجمه و تناصر الأصيل لتتباهى به ..الكتابة هي عنواني
نحو اكتمال الصورة و وضوح الرؤيا ,هي تجديد دائم لفهم ألغاز الحياة .
لا أتخيل حياتي بلا كتابة فبدونها اتخيل نفسي بلا
ظل مثل مرآة مكسورة تضيع معها الملامح , فحاجتي إليها تكمن في رغبتي الدفينة بالتجلي و التشكل و البحث عن معاني لمصطلحات تتحجر
كل يوم دون رحمة .
حينما أبدأ في قراءة ما كتبت أجدني حبيس ملفها
الذي يكاد يملأ ذاكرتي أستلهم منه روائح الزمن الجميل فلهذا القلب مشيئة أخرى تتسلل
إلى كلماتي دون إذن مني و يشكل مع النص المكتوب سمفونيته الفريدة برغم انتهاء الحكاية
..و تجرعته بعدها من مرارة كان قدر الكتابة معي أن تكون لغة الجراح الغائرة و نار تتقد
كلما امتنع النسيان عن أداء دوره الرحيم معي ,و إن كانت مادة النسيان معطلة عندي خصوصا
مع ذلك الملف الذي لازال يختزل لغة القلب و استعصت كلماتي عن إقباره و نعيه نهائيا
.
ليس من عادتي البكاء عن اللبن المسكوب ,أو النحيب
عن الأطلال لكن حماية العواطف تجعلني أسبح ضد التيار لأستحضر من شقوق الكلمات مشاعرنا
الملتهبة آنذاك و التي حولت ليالينا الساهدة إلى زمن يعتصر الأحلام و يسكنها و يشكل
الأمل و يتغنى به ,إن الذكرى تجعلني أسترسل في اقتطاف متعة الليل حيث تنبعث الأرواح
و تتعانق و تمتزج رغم المسافات و الغياب , هكذا كان للقلب حكاية أوسع من الوطن تسافر
به أجنحة الليل ليتمادى في دلاله و نشوته .
حينما أحاول إيجاد مفهوما للكتابة أجد صعوبة في
فك لغز التناقضات التي تشكلها , فهي أحيانا نقط التقاطع بين الظلمة و الضوء ,بين الحلو
و المر ,بين نشوة القلب و جرحه الأليم ..إنها سر المعذبين في الأرض ,و المنسيين بين
أحضان الليل ,إنها الوسيلة الوحيدة التي تفرض على الآخرين الإلتفات إلينا و الإعتراف
بنا .
مع اقتراب الفجر الذي يذكرني باقتراب الطلاء الأبيض
أدرك أن الليل وعاء حريري يحجبني عن الفوضى و يجعل من الكتابة سريري الأبدي الذي يريح
كياني من عناء الضوضاء و ثقافة الإشاعة و يكفي أن الليل يحفزني على الكتابة فحضوره
الزاهد في الصمت و الغني بالخيال ينسجم مع تطلعاتي لأرسم بالكلمات فن التشكيل اللغوي
عبر لوحات يتلخص بداخلها التشخيص و التجريد لتكون خير مرآة للحياة نفسها .
No comments:
Post a Comment