الرباط
جعلت قطرة مطر مدخلا لولوج عالمه المثير : إهداء – شعرا – ومضات – تأملات ، يأتي الديوان خلف رصيد مهم من الأعمال الشعرية : سحـر الإمتـداد – كوكـب الربيع – لو تنصت العـصافير للبشر.
خيط فني يحكمها،و قضية إنسانية تجمعها و طاقة الشاعر الإبداعية تفجرها . فبأي انفعال؟ و بأي مد شعري؟ و بأي رؤى جاء هذا الديوان الأخير؟ هي محطات شاعرية دالة ، سأقف عندها من أجل تقديم إضاءات في هذا الديوان الذي قدمه لي الشاعر الكبير : لحسن عايي مشكورا هدية في ملتقى بوذنيب للإبداع في نسخته الثالثة، في سياق شعري و ثقافي متميز تعطلت فيه لغة الكلام .
1 -العنوان :
المستفز و المثير و المثير للفضول فقطرة مطر حبلى بالدلالات: فأول الغيث قطرة .الإنتظار و الترقب و الأمل و التضرع و الدعاء "اللهم سقنا الغيث و لا تجعلنا من القانطين" و "اللهم اسق عبادك و بهيمـتك و انشر رحمتك و احيي بلدك الميت". الرحمة و الحياة عندما يشتد القحط و ينحبس المطر وترى الإنسان يقلب عينيه في السماء و في الآفاق الأربعة لعل سحابة سوداء مثقلة بالأمطار آتية، يقول علي الصقلي: قطرة ماء
" كـم تعـالت أكفـنا للسـماء رب لا سؤل غير قطرة ماء
رب رحماك للبراعم في الأك مام تذوي للنخلة العجفاء " (1)
الطلب بلا انقطاع ، و رفع الأكف طلبا للغيث في تدلل و خشوع وانكسار.واستعجال الشاعر فتحها سرعة لتجاوز القيم السلبية من موت و قسوة و عنف و حروب و عداوة و عبودية إلى الحياة و الرحمة و الرفق و السلم و المحبة و الحرية ... تخطي واقع متأزم ومتوتر يقتضي إيجاد الحلول و الخلاص و بأقصى سرعة ممكنة نحو حياة أفضل تكون فيها قطرة ماء بداية النهاية ...
(1) علي الصقلي المناهل عدد: 21 يوليوز1981 م
2-الإهداء:
" إلى روح والدي الذي علمني كيف أحب الحياة و كيف أدرك أنها موسم زرع .. ينتهي بعد قطف آخر حبة فاكهة ".(1)
الأب / مدرسة تلقن فيها ليس القيم النبيلة فحسب و أسماها : الحب حب الحياة بمعناها الواسعبل حتى كيفية هذا الحب الذي لديه حدان:الأول الزرع و الثاني الحصاد. و اقترانهما بعقد شرعي مقدس لن يثمر إلا فاكهة طيبة .
أما الأم التي لا زالت تخاطب فيه ذلك الطفل – أنا متيقن- ستبقى كذلك و في هذا المعنى يقول نزار قباني: رسالة إلى أمي
لم أعثر – على امرأة تمشط شعري الأشقر
و تحمل في حقيبتها إلي عرائس السكر
و تكسوني إذا أعرى
و تنشلني إذا أعثر
فكيف..فكيف..يا أمي
غدوت أبا و لم أكبر؟(2)
و هذا محمود درويش: إلى أمي
"هرمت فردي نجوم الطفولة
حتى اشارك صغار العصافير
درب الجوع لعش انتظارك".(3)
طوبى لك فالزوجة رفيقة الدرب وعاشقة أشعارك حسبك تلك النعمة مغبون فيها كثير من الخلق.يبقى الإهداء عربون محبة وسلام الوالدين والزوجة يمتد إلى الأبناء و الأصهار و الأصدقاء والشعراء .
(1) الديوان ص:01
(2) نزار قباني خمس رسائل إلى أمي الأعمال الشعرية الكاملة ط:بيروت،ص:529
(3) محمود درويش ديوان عاشق من فلسطين 1966 م
انطلق هذا المد الشعري الجارف من : واحتي إلى: آدم- شتلة كلام- لاتستعجلي- حلم- أخيرا زارنا القمر –داني،حيث امتطت القصيدة في رحيلها الغجري صهوة الكلمة و سارت رغم كل الإنفعالات المتباينة، لتواصل نشوة الرحيل بحثا عن سلام مفقود يسقي انتظاري أو أمل منتظر و حلم مؤجل ضائع . كأني بها لحظة مس أو هو جنون ظاهر لفرحة معلنة :
" خضبت وشما بلون الريحان
الأرض عسجد برعشة الفتون
تروي شذو هذي الألحان" (1)
و تصبح الفرحة عارمة بميلاد الحفيد آدم يجعل الشاعر عناصر الطبيعة كلها مشاركة له فرحته من النسيم و العصافير و البراعم و حتى الحياة بلفظ تكرر للتأكيد:"هي".
" هي الكلمات شغوفة بالتحليق
ترسم حب الحفيد
هي نسمة الزهر تبغي التحديق " (2)
و تتجدد الفرحة بميلاد داني حفيد الأديبة سعاد عثمان و يحضر العندليب و الإكليل و الورد و السعتر في غناء و شدو و ابتهاج لأن الشاعر يخاطب داني:
" يا ذا البهاء و الحظ الوفير
فأنت يا عزيزي
بالحب جدير". (3)
وفي لغة عاطفية يناجي الشاعر قطرة مطر في رحلتها خلف الضباب و مرورها بين النخيل، و العصافير، و النجوم، و الحقول المنبسطة متخطية البرك الموحِلة موظفا كل الحواس: السمع – البصر – الشم – اللمس، عشقا بلغ حد الهذيان تارة و العبادة تارة أخرى:
" النظر إليك يأخذني
إلى زاوية الإغماء الدائم
تخطفين نبضي
و تهربين بالشفق ". (4)
(1) الديوان ص:09
(2) الديوان ص: 10
(3) الديوان ص:32
" ما عاد لصلواتي معبد
صلواتي
من روضة الزعتر
سأمشي
إليك على خطى سحبي
كريشة سحبتها نسمة هواء
و نفخ فيها لهاثي الهارب إليك
شفق صوتك لا يفارق الأفق
محراب أنشأه القدر
أنشودتي...
حبيبات صبح فتيق لا يتعكر".(1)
قصيدة ذات نمو درامي ملفت لم يكتف الشاعر بسبك خواطره أو نظم معانيه في صورة مسلسل رتيب من المشاعر.إنما اعتمد على صوغ هذه التجربة الوجدانية في قالب درامي حيث نمو الإنفعال والإحساس يبدأ من لحظة الشوق ثم يتطور ويتصاعدإلى الذوبان في جوف قطرة مطر لينتهي عند الإغماء أو الصلاة في محرابها.
4 -ومضات:
هي بوح عاطفي في رحلة مريرة فيها الخوف والإنتظار والهروب والإنفلات والتمنع:
انتظرت خارج حلمي
تمادت في حلمها
فتركتني وحيدا"
اختلاط فوضى مشاعر حزن شوق دهشة صمت كلام...حب ومطاردة داخل مملكة الشعر:
أنا سفير الحرف
في مدينتك
(1) الديوان ص: 22
04
أتجول
شاهرا قصيدتي
فهلا عاملتني
كما يعامل السفراء؟ "(1)
توسل :
لا ترحلي
فأنت تحدثين شيئا بداخلي
سأغني صامتا لاستمتع بحديث الوجدان ". (2)
رجاء:
لاتغيبي عن حروفي.
حب الشاعر قطرة مطر والمرأةوالقصيدة إلى حد الجنون ، فجنونالحب شيئ لا يفسر:
دعي منطوق شعري
واسعي لقراءة ما تسكعفي صدري من كلمات" (3)
هذا الحب الذي غطى كل الجنبات حتى أصبحبين الكلمة والصوت،والزفير والشهيق يعلن الشاعر أنه ممتد الى الابد:
"ستظلين رفيقة دربي
تنزلين اميرة علىدرج حبري تسبقين الانفاس
إلى باحة قرطاسي" (4)
(1) الديوان ص:46
(2) الديوان ص:53
(3) الديوان ص:87
(4) الديوان ص:155
5 -تأملات :
الشاعر لحسن عايي لا يقدم أفكارا ، بل رؤى يقول صلاح عبد الصبور : " إن الشاعر لا يعرض أراء ولكنه يعرض رؤيا."فهي في هده التأملات رؤى كلية جامعة حول الطبيعة،الانسان ،الحياة،الكتابة و النفس ولادة جديدة للأشياء بعد معاناة طويلة وتأمل مستديم في القضايا والمشكلات بنظرة فيها من العمق والإحاطة والشمول.
فرحلة الجسد بلا روح جراح دامية ، والحب والبراءة متلازمان ووراء الشتاء فصل آخر والإنسان هكذا طفل يرفض أن ينمو والكتابة : أجمل امبراطورية ترفع فيها رايات الحب والسلام أما الحياة فقطعة سحاب تنمحي الكلمة :سحرها يمتد فينا النفس:كتاب مفتوح لقراءات تتجدد باستمرار خلف دهشة دائمة.
خلاصة:
يقول أحمد أمين: " زرت مرة أوروبا فدققت النظر في رقيهم ، وانحطاطنا فقلت أن رقيهم سببه ميمان : المرأة و المطر. فالمرأة برقيها رقت أمتها ن و المطر ألطف الجو و كسا الجبال و الأشجار و الزرع ". (1)
و لأمر ما جمع الشاعر لحسن عايي بين المرأة والمطر و القصيدة و الذات في خليط متجانس ، من الصعب التمييز بين مكوناته في فيزياء الشعر . عبر عن رؤى في الشعر و الكون و الإنسان بأنبل عاطفة إنسانية (الحب) الذي تعلم حروفه الهجائية الأولى في مدرسة الأب تغمده الله بواسع رحمته .جعلنا نحب معه اللون و الصوت و العطر و القصيدة الحبلى بالدلالات .
حس إنساني متميز للتعبير عن الذات في معاناتها و حالة التشظي في زمن تراجعت فيه القيم
"أخاف...
يوما
ألا أجد وردا أهديه لك
لانشغال البشر بأمور أخرى".
يقول ادونيس:" العالم يشحب والكلمات نساء،ما يقتله يحيه يصنع في كفن التاريخ سريرا آخر يولد فيه،هدا هو الشاعر ادن" استطاع لحسن عايي افراغ الكلمات من مدلولها المعجمي وتمكن من توظيف ادوات شعرية:صورة-رمز-تكرار-تنوع الايقاع-الروي يصبها في قالب فني متميز متكئ على حس مرهف،وأسلوبرومانسي فريد،ولغة قرانية انالا مفر –تحبولمستقر لها.وثقافة متجددة تعكس مدى عمق التجربة واصالتها وغناها .
الأســتـاذ : لـحـسـن بــنيعـيـش.
الرباطفي: السبت16 ماي 2015 م.
المصادر والمراجع المعتمدة :
1 - لحسن عايي قطرة مطر الرشيدية كرافيك ط:1 فبراير 2015 م.
2- أحمد أمين إلى ولدي مكتبة النهضة المصرية .
3- محمود درويش ديوان عاشق من فلسطين 1966م
4- نزار قباني الأعمال الشعرية الكاملة طبعة : بيروت.
No comments:
Post a Comment