أصوات كثيرة ترتفع ، وكتابات متوترة تنتشر، ونقابات وجمعيات وهيئات وأحزاب
تتشاجر، كل هذه الحركة وذاك اللغط حينما يبدأ
الحديث عن الزيادة في ثمن الخبز المدعم، حيث يقول هؤلاء جميعا وبصوت واحد: قدرة
المواطن الشرائية خط أحمر، وترفع الخبزة في أوساط المحتجين على غلاء المعيشة ، من
بشر وضيوف " حمير"... وتتسابق
أبواق النقابات والجمعيات أمام الكاميرات والقنوات الأرضية والفضائية، وتعقد
الندوات ،ويتدخل الأمن لتفريق المظاهرات والاحتجاجات، والشعار دائما هو : " المساس بالقدرة الشرائية خط أحمر".
وإذا كان الاحتجاج على غلاء المعيشة حقا مشروعا، وإن تكن الخبزة وسيلة من وسائل
العيش ، فإن اختزال ضرب القدرة الشرائية في الخبزة المستديرة يعد "
استبلادا" للمواطنين، وتحقيرا للعقول، وضحكا على الذقون وذرا للرماد في العيون...
وهو أشبه بحصر الروح الوطنية في نصرة الفريق الوطني في مباريات كرة القدم ! في حين
أن جوهر الوطنية هو حب كل شيء جميل في الوطن، ورفض كل خبيث فيه.
ومما يلاحظ، أيضا، من جانب الحكومة وأحزاب الأغلبية، أنها تستجيب بسرعة لنداء
"الخبزة " فتتفاوض مع الخبازين في ربوع الوطن، وغالبا ما تكون النتائج
مرضية.
وبعد هذا العرض العجيب والغريب الذي يلخص العلاقة بين الأغلبية والمعارضة في
موضوع " الخبزة "، أحزابا ونقابات، جمعيات وهيئات، مستقلة وتابعة،
تتبادر - لا شك - إلى الأذهان أسئلة عديدة تتصل بباقي مناحي الحياة ندرج بعضا منها
كما يلي :
لماذا هذا " الحب " والإصرار، من الطرفين المؤيد والمعارض، على
اختزال القدرة الشرائية في الخبزة؟
فإذا كانت الأصوات المعارضة "
تتألم " لحال الفقير الذي ستثقل كاهله الخبزة المدعمة، فلماذا لا "
تتألم "، مثلا، لحال أطفال الشوارع والمتخلى عنهم الذين لا يجدون مأوى ولا
لباسا ولا ماء ولا دواء ولا مدرسة ، ولا
يشملهم أي إحصاء !!
والسؤال نفسه يطرح على المسؤولين في الحكومة الذين لا يحركون ساكنا إزاء هذه
الوضعية المنسية، وضعية الأطفال المنسيين، بينما نراهم يتسابقون للتصريح باحترام القدرة الشرائية بمجرد الحديث عن
الزيادة في ثمن الخبزة، أو السرقة من وزنها، حيث نسمع تفاصيل مملة عن التدبير
والحكامة والمساواة !
والحق أن هذا التصرف شاذ، ولا نستطيع أن نجد له مبررا معقولا، إلا إذا كان
مقدرا على المغاربة أن يعيشوا على الخبز " الحافي "، وكأننا نعدهم للمصيدة، كما نعد المصيدات، بالخبز المدهون والطماطم، للفئران .
وأما القدرة الشرائية التي باتت يافطة وشعارا للتمويه والادعاء بحب الخير
للمواطنين، والفقراء منهم بالخصوص، فإنها – في الجوهر - تعني توفير شروط العيش الكريم، فالعاطل عن
العمل، مثلا، لا يستطيع اقتناء الخبزة ولو بريال واحد، فماذا عن كسوته وصحته
وزواجه وعمره الذي تأكله الأيام والشهور والسنوات.
إن على الأطراف كلها - والتي تتسابق لإعلان الحرب والحرب المضادة كلما تعلق
الأمر بالخبزة - أن تحترم عقول المواطنين قبل حقوقهم، وذلك بالبحث عن الخط الأحمر
في تشغيل المواطن و أمنه وصحته وتعليمه
وسكنه وحريته، فما معنى وزارة تشغيل لا تشغل، ولا تحارب مستغلي المستضعفين في
المعمل والمصنع والحقل والزريبة والبئر والقطيع ؟ وما الفائدة من مراكز الأمن
والمراقبة إذا لم توفر للمواطن الشعور بالأمن في وطنه ومسكنه وسيارته وسفره وتنقله
؟ وكيف نستسيغ وجود مستشفيات في الألفية الثالثة، تكاد تكون خالية من الدواء وفرص
العلاج، يتلقى فيها المرضى " دروسا
" قاسية في التنكيل والاستهزاء، حيث تختفي " ملائكة الرحمان "
لتعوضها " همسات من الشيطان " تخلف آثارا بليغة في نفوس المرضى والمرافقين ،
الصغار والكبار والمسنين.
وما بالنا بمدارس تكدس فيها التلاميذ
كما يكدس، في الشباك، السردين ؟ في مناطق نائية معزولة بلا طريق ولا مسكن بالمعلم يليق، ولا مراحيض ولا
ماء، فلنتساءل جميعا عن موقع الخط الأحمر
الذي يجب ألا يمس في هذا المجال .
وما شأن فواتير الماء والكهرباء التي نزل ثقلها على المواطنين كالصاعقة، فأين
الهيئات والأحزاب من الخط الحمر ؟
وأين جمعيات حماية المستهلك الذي يهلك كل يوم بالزيادات في تذاكر النقل والبنزين
والمواد الغذائية؟ أوليس للعدس والفول والحمص والبطاطس خطوط حمراء ؟ وما موقع
الحليب واللبن والزبدة والكتاب والقصة في
أجندة حماة المستهلكين وخطهم الأحمر؟
وما حال الثياب التي نلبسها ؟ أليست هي كذلك من المستهلكات ؟ فلماذا لا نبحث
لها عن خطوط حمراء؟
لعل كثيرا من الأمور، في بلادنا، تنتشر بالتدريج، وبما يشبه الفطريات، إلى
أن تصبح كالأمراض المستعصية، فنتوهمها قدرا لا مفر منه، وما هي في الحقيقة سوى نوع من أنواع " القهر بالعادة " نتقبله دون إخضاعه
للعقل والمنطق، ومن غير أن نبحث في مشروعيته، ولا في الفضيلة من وراء
شرعنته.
ولذلك
يبقى واجبا علينا احترام الخط الحمر في كل مناحي الحياة، بشرط أن يستحضر هذا الخط
الغني والفقير والقوي والضعيف والمسؤول في الأغلبية ونظيره في المعارضة، من غير زيادة تسميها الجهة المناوئة
شعبوية، أو نقصان يطلق عليه المؤيدون تشويشا وعرقلة.......
فالوطن الحبيب عزيز ورحب يسع الجميع... وما علينا إلا حبه واحترام جميع أبنائه .
حـسـن بـرنـي زعـيـم
No comments:
Post a Comment